سورة الفرقان - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد عاد إلى ذكر قبائح الكفار، وفضائح سيرتهم، فقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ} إن عبدوه {وَلاَ يَضُرُّهُمْ} إن تركوه {وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيراً} الظهير المظاهر أي: المعاون على ربه بالشرك والعداوة، والمظاهرة على الربّ هي المظاهرة على رسوله، أو على دينه. قال الزجاج: لأنه يتابع الشيطان، ويعاونه على معصية الله، لأن عبادتهم للأصنام معاونة للشيطان.
وقال أبو عبيدة: المعنى: وكان الكافر على ربه هيناً ذليلاً، من قول العرب ظهرت به أي: جعلته خلف ظهرك لم تلتفت إليه، ومنه قوله: {واتخذتموه وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود: 92] أي: هيناً، ومنه أيضاً قول الفرزدق:
تميم بن بدر لا تكوننّ حاجتي *** بظهر فلا يعيا عليّ جوابها
وقيل: إن المعنى: وكان الكافر على ربه الذي يعبده، وهو الصنم قوياً غالباً يعمل به ما يشاء، لأن الجماد لا قدرة له على دفع ونفع، ويجوز أن يكون الظهير جمعاً كقوله: {وَالْمَلاَئِكَة بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، والمعنى: أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على رسول الله، أو على دين، والمراد بالكافر هنا الجنس، ولا ينافيه كون سبب النزول هو كافر معين كما قيل: إنه أبو جهل. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا} أي: مبشراً للمؤمنين بالجنة، ومنذراً للكافرين بالنار.
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي: قل لهم يا محمد: ما أسألكم على القرآن من أجر، أو على تبليغ الرسالة المدلول عليه بالإرسال، والاستثناء في قوله: {إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} منقطع أي: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً فليفعل، وقيل: هو متصل. والمعنى: إلاّ من شاء أن يتقرّب إليه سبحانه بالطاعة، وصور ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الحصول. ولما بين سبحانه أن الكفار متظاهرون على رسول الله، وأمره أن لا يطلب منهم أجراً ألبتة، أمره أن يتوكل عليه في دفع المضارّ، وجلب المنافع، فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} وخصّ صفة الحياة إشارة إلى أن الحيّ هو الذي يوثق به في المصالح، ولا حياة على الدوام إلاّ لله سبحانه دون الأحياء المنقطعة حياتهم، فإنهم إذا ماتوا ضاع من يتوكل عليهم، والتوكل: اعتماد العبد على الله في كلّ الأمور {وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ} أي: نزّهه عن صفات النقصان، وقيل: معنى {سبح}: صلّ، والصلاة تسمى تسبيحاً {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} أي: حسبك، وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك: كفى بالله رباً، والخبير: المطلع على الأمور بحيث لا يخفى عليه منها شيء، ثم زاد في المبالغة، فقال: {الذى خَلَقَ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} قد تقدّم تفسير هذا في الأعراف، والموصول في محل جرّ على أنه صفة للحيّ، وقال: {بينهما}، ولم يقل: بينهنّ؛ لأنه أراد النوعين، كما قال القطامي:
ألم يحزنك أن جبال قيس *** وتغلب قد تباتتا انقطاعاً
فإن قيل: يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السماوات، والأرض كما تفيده ثم، فيقال: إن كلمة ثم لم تدخل على خلق العرش بل على رفعه على السموات، والأرض، والرحمن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو صفة أخرى للحيّ، وقد قرأه الجمهور بالرفع، وقيل: يجوز أن يكون بدلاً من الضمير في {استوى}، أو يكون مبتدأ وخبره الجملة أي: فاسأل على رأي الأخفش، كما في قول الشاعر:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم ***
وقرأ زيد بن علي: {الرحمن} بالجرّ على أنه نعت للحيّ، أو للموصول {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} الضمير في به يعود إلى ما ذكر من خلق السماوات والأرض، والاستواء على العرش. والمعنى: فاسأل بتفاصيل ما ذكر إجمالاً من هذه الأمور.
وقال الزجاج والأخفش: الباء بمعنى عن أي: فاسأل عنه، كقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] وقول عنترة بن شداد:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك *** إن كنت جاهلة بما لم تعلم
وقال علقمة بن عبده:
فإن تسألوني بالنساء فإنني *** خبير بأدواء النساء طبيب
والمراد بالخبير: الله سبحانه؛ لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلاّ هو، ومن هذا قول العرب: لو لقيت فلاناً للقيك به الأسد أي: للقيك بلقائك إياه الأسد، فخبيراً منتصب على المفعولية، أو على الحال المؤكدة، واستضعف الحالية أبو البقاء، فقال: يضعف أن يكون {خبيراً} حالاً من فاعل اسأل، لأن الخبير لا يسأل إلاّ على جهة التوكيد، كقوله: {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا} [البقرة: 91] قال: ويجوز أن يكون حالاً من الرحمن إذا رفعته باستوى.
وقال ابن جرير: يجوز أن تكون الباء في به زائدة. والمعنى: فاسأله حال كونه خبيراً. وقيل: قوله: {به} يجري مجرى القسم كقوله: {واتقوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ} [النساء: 1]، والوجه الأوّل أقرب هذه الوجوه.
ثم أخبر سبحانه عنهم بأنهم جهلوا معنى الرحمن فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن} قال المفسرون: إنهم قالوا ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة. قال الزجاج: الرحمن: اسم من أسماء الله، فلما سمعوه أنكروا، فقالوا: وما الرحمن {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}، والاستفهام للإنكار أي: لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له، ومن قرأ بالتحتية، فالمعنى: أنسجد لما يأمرنا محمد بالسجود له.
وقد قرأ المدنيون، والبصريون: {لِمَا تَأْمُرُنَا} بالفوقية، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بالتحتية. قال أبو عبيد: يعنون الرحمن. قال النحاس: وليس يجب أن يتأوّل على الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الأولى: أن يكون التأويل لهم اسجدوا لما يأمرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين.
{وَزَادَهُمْ نُفُوراً} أي: زادهم الأمر بالسجود نفوراً عن الدين، وبعداً عنه، وقيل: زادهم ذكر الرحمن تباعداً من الإيمان، كذا قال مقاتل، والأوّل أولى.
ثم ذكر سبحانه ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن، فقال: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجاً} المراد بالبروج بروج النجوم أي: منازلها الإثنا عشر، وقيل: هي النجوم الكبار، والأوّل أولى. وسميت بروجاً، وهي القصور العالية؛ لأنها للكواكب كالمنازل الرفيعة لمن يسكنها، واشتقاق البرج من التبرج، وهو الظهور. {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} أي: شمساً، ومثله قوله تعالى: {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} [نوح: 16] قرأ الجمهور: {سراجاً} بالإفراد. وقرأ حمزة، والكسائي {سرجاً} بالجمع أي: النجوم العظام الوقادة، ورجح القراءة الأولى أبو عبيد. قال الزجاج: في تأويل قراءة حمزة والكسائي أراد الشمس والكواكب {وَقَمَراً مُّنِيراً} أي: ينير الأرض إذا طلع، وقرأ الأعمش {قمراً} بضم القاف، وإسكان الميم، وهي قراءة ضعيفة شاذة. {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً} قال أبو عبيدة: الخلفة: كلّ شيء بعد شيء: الليل خلفة للنهار، والنهار خلفة لليل، لأن أحدهما يخلف الآخر، ويأتي بعده؛ ومنه خلفة النبات، وهو: ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
بها العين والآرام يمشين خلفة *** وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم
قال الفراء في تفسير الآية: يقول: يذهب هذا، ويجيء هذا، وقال مجاهد: خلفة من الخلاف، هذا أبيض، وهذا أسود. وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام، والزيادة والنقصان. وقيل: هو من باب حذف المضاف أي: جعل الليل، والنهار ذوي خلفة أي: اختلاف {لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} قرأ حمزة مخففاً، وقرأ الجمهور بالتشديد، فالقراءة الأولى من الذكر لله، والقراءة الثانية من التذكر له. وقرأ أبيّ بن كعب: {يتذكر}، ومعنى الآية: أن المتذكر المعتبر إذا نظر في اختلاف الليل والنهار علم أنه لا بدّ في انتقالهما من حال إلى حال من ناقل {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أي: أراد أن يشكر الله على ما أودعه في الليل والنهار من النعم العظيمة، والألطاف الكثيرة. قال الفراء: ويذكر ويتذكر يأتيان بمعنى واحد. قال الله تعالى: {واذكروا مَا فِيهِ} [الأعراف: 171]، وفي حرف عبد الله {ويذكروا ما فيه}.
{وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} هذا كلام مستأنف مسوق لبيان صالحي عباد الله سبحانه، و{عباد الرحمن} مبتدأ وخبره الموصول مع صلته، والهون مصدر، وهو السكينة والوقار.
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن الهون متعلق ب {يمشون} أي: يمشون على الأرض مشياً هوناً.
قال ابن عطية: ويشبه أن يتأوّل هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هوناً مناسبة لمشيه، وأما أن يكون المراد صفة المشيء وحده، فباطل، لأنه ربّ ماش هوناً رويداً، وهو ذئب أطلس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صيب. {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً} ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه، فلا يجهلون مع من يجهل، ولا يسافهون أهل السفه. قال النحاس: ليس هذا السلام من التسليم إنما هو من التسلم، تقول العرب: سلاماً أي: تسلماً منك أي: براءة منك، منصوب على أحد أمرين: إما على أنه مصدر لفعل محذوف أي: قالوا: سلمنا سلاماً، وهذا على قول سيبويه، أو على أنه مفعول به أي: قالوا: هذا اللفظ، ورجحه ابن عطية.
وقال مجاهد: معنى {سلاماً}: سداداً، أي: يقول للجاهل كلاماً يدفعه به برفق ولين. قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذٍ أن يسلموا على المشركين لكنه على قوله تسليماً منكم، ولا خير، ولا شرّ بيننا وبينكم. قال المبرد: كان ينبغي أن يقال: لم يؤمر المسلمون يومئذٍ بحربهم، ثم أمروا بحربهم.
وقال محمد بن يزيد: أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة. قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاماً في معنى الناسخ، والمنسوخ إلاّ في هذه الآية، لأنه قال في آخر كلامه: فنسختها آية السيف. وأقول: هكذا يكون كلام الرجل إذا تكلم في غير علمه، ومشى في غير طريقته، ولم يؤمر المسلمون بالسلام على المشركين، ولا نهوا عنه. بل أمروا بالصفح، والهجر الجميل، فلا حاجة إلى دعوى النسخ. قال النضر بن شميل: حدّثني الخليل قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت. فإذا هو على سطح، فسلمنا، فردّ علينا السلام، وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين، ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابيّ إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل: هو من قول الله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} [البقرة: 29] قال: فصعدنا إليه، فقال: هل لكم في خبز فطير، ولبن هجير؟ فقلنا: الساعة فارقناه، فقال: سلاماً، فلم ندر ما قال، فقال الأعرابيّ: إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شرّ. قال الخليل: هو من قول الله {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً}.
{وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما} البيتوتة: هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم. قال الزجاج: من أدركه الليل، فقد بات، نام أو لم ينم، كما يقال: بات فلان قلقاً، والمعنى يبيتون لربهم سجداً على وجوههم، وقياماً على أقدامهم، ومنه قول امرئ القيس:
فبتنا قياماً عند رأس جوادنا *** يزاولنا عن نفسه ونزاوله
{والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أي: هم مع طاعتهم مشفقون وجلون خائفون من عذابه، والغرام: اللازم الدائم، ومنه سمي الغريم لملازمته، ويقال: فلان مغرم بكذا أي: ملازم له مولع به، هذا معناه في كلام العرب، كما ذكره ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما، ومنه قول الأعشى:
إن يعاقب يكن غراما *** وإن يعط جزيلاً فإنه لا يبالي
وقال الزجاج: الغرام أشدّ العذاب.
وقال أبو عبيدة: هو الهلاك.
وقال ابن زيد: الشرّ، وجملة: {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} تعليل لما قبلها، والمخصوص محذوف: أي: هي، وانتصاب {مستقرًّا} على الحال، أو التمييز، وكذا {مقاماً}، قيل: هما مترادفان، وإنما عطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما، وقيل: بل هما مختلفان معنى: فالمستقرّ للعصاة، فإنهم يخرجون، والمقام للكفار، فإنهم يخلدون، وساءت من أفعال الذم كبئست، ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه، ويجوز أن يكون حكاية لكلامهم.
ثم وصفهم سبحانه بالتوسط في الإنفاق، فقال: {والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب: {يقتروا} بفتح التحتية، وضم الفوقية، من قتر يقتر، كقعد يقعد، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح التحتية، وكسر التاء الفوقية، وهي لغة معروفة حسنة، وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية وكسر الفوقية. قال أبو عبيدة: يقال: قتر الرجل على عياله يقتر، ويقتر قتراً، وأقتر يقتر إقتاراً، ومعنى الجميع: التضييق في الإنفاق. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى الآية: أن من أنفق في غير طاعة الله، فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله، فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله، فهو القوام.
وقال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعرى، ولا ينفق نفقة، يقول الناس قد أسرف.
وقال يزيد بن أبي حبيب: أولئك أصحاب محمد كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدّ عنهم الجوع، ويقوّيهم على عبادة الله، ومن اللباس ما يستر عوراتهم، ويقيهم الحرّ والبرد.
وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف، ولم يبخلوا كقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] قرأ حسان بن عبد الرحمن: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها، فقيل: هما بمعنى، وقيل: القوام بالكسر: ما يدوم عليه الشيء ويستقرّ، وبالفتح: العدل، والإستقامة، قاله ثعلب. وقيل: بالفتح: العدل بين الشيئين، وبالكسر: ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا ينقص. وقيل: بالكسر: السداد والمبلغ، واسم كان مقدّر فيها أي: كان إنفاقهم بين ذلك قواماً، وخبرها {قواماً}، قاله الفراء.
وروي عن الفراء قول آخر، وهو أن اسم كان {بين ذلك}، وتبنى بين على الفتح؛ لأنها من الظروف المفتوحة.
وقال النحاس: ما أدري ما وجه هذا، لأن بين إذا كانت في موضع رفع رفعت.
وقد أخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيراً} يعني: أبا الحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل بن هشام.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} قال: قل لهم يا محمد: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر، يقول: عرض من عرض الدنيا.
وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عنه أيضاً في قوله: {تَبَارَكَ الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً} قال: هي هذه الإثنا عشر برجاً أولها: الحمل، ثم الثور، ثم الجوزاء، ثم السرطان، ثم الأسد، ثم السنبلة، ثم الميزان، ثم العقرب، ثم القوس، ثم الجدي، ثم الدلو، ثم الحوت.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً: {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً} قال: أبيض وأسود.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً يقول: من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار، ومن النهار أدركه بالليل.
وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم عن الحسن: أن عمر أطال صلاة الضحى، فقيل له: صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، فقال: إنه بقي عليّ من وردى شيء، فأحببت أن أتمه، أو قال: أقضيه، وتلا هذه الآية: {وَهُوَ الذى جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً} الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَعِبَادُ الرحمن} قال: هم: المؤمنون {الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} قال: بالطاعة والعفاف والتواضع.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: {هَوْناً}: علماً وحلماً.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} قال: «الدائم».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله، ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله.


قوله: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ}: لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي، فقال: والذي لا يدعون مع الله سبحانه رباً من الأرباب. والمعنى: لا يشركون به شيئاً، بل يوحدونه، ويخلصون له العبادة والدعوة {وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله} أي: حرّم قتلها {إِلاَّ بالحق} أي: يحقّ أن تقتل به النفوس من كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس {وَلاَ يَزْنُونَ} أي: يستحلون الفروج المحرّمة بغير نكاح، ولا ملك يمين {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي: شيئاً مما ذكر {يَلْقَ} في الآخرة {أَثَاماً}، والأثام في كلام العرب: العقاب. قال الفراء: آثمه الله يؤثمه أثاماً وآثاماً، أي: جازاه جزاء الإثم.
وقال عكرمة، ومجاهد: إن أثاماً وادٍ في جهنم جعله الله عقاباً للكفرة.
وقال السديّ: جبل فيها. وقرئ: {يلق} بضم الياء، وتشديد القاف. قال أبو مسلم: والأثام والإثم واحد، والمراد هنا جزاء الآثام، فأطلق اسم الشيء على جزائه. وقرأ الحسن {يلق أياماً} جمع يوم يعني: شدائد، والعرب تعبر عن ذلك بالأيام، وما أظنّ هذه القراءة تصح عنه: {يضاعف لَهُ العذاب}: قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي: {يضاعف} {ويخلد} بالجزم، وقرأ ابن كثير {يضعف} بتشديد العين وطرح الألف والجزم، وقرأ طلحة بن سليمان: {نضعف} بضم النون، وكسر العين المشدّدة والجزم، وهي: قراءة أبي جعفر وشيبة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالرفع في الفعلين على الإستئناف. وقرأ طلحة بن سليمان: {وتخلد} بالفوقية خطاباً للكافر.
وروي عن أبي عمرو أنه قرأ: {ويخلد} بضم الياء التحتية، وفتح اللام. قال أبو عليّ الفارسي: وهي غلط من جهة الرواية، ووجه الجزم في يضاعف: أنه بدل من يلق لاتحادهما في المعنى، ومثله قول الشاعر:
إن على الله أن تبايعا *** تؤخذ كرهاً أو تجيء طائعاً
والضمير في قوله: {وَيَخْلُدْ فِيهِ} راجع إلى العذاب المضاعف، أي: يخلد في العذاب المضاعف {مُهَاناً} ذليلاً حقيراً. {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا} قيل: هو استثناء متصل، وقيل: منقطع. قال أبو حيان: لا يظهر الاتصال؛ لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب، فيصير التقدير: إلاّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً، فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف. قال: والأولى عندي: أن تكون منقطعاً أي: لكن من تاب. قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر والزاني.
واختلفوا في القاتل من المسلمين.
وقد تقدّم بيانه في النساء والمائدة، والإشارة بقوله: {فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} إلى المذكورين سابقاً، ومعنى: تبديل السيئات حسنات: أنه يمحو عنهم المعاصي، ويثبت لهم مكانها طاعات. قال النحاس: من أحسن ما قيل في ذلك: أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع. قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا يبدل الله لهم إيماناً مكان الشرك، وإخلاصاً من الشك، وإحصاناً من الفجور. قال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. وقيل: إن السيئات تبدّل بحسنات، وبه قال جماعة من الصحابة، ومن بعدهم. وقيل: التبديل عبارة عن الغفران أي: يغفر الله لهم تلك السيئات، لا أن يبدلها حسنات. وقيل: المراد بالتبديل: أن يوفقه لأضداد ما سلف منه {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من التبديل.
{وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صالحا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً} أي: من تاب عما اقترف، وعمل عملاً صالحاً بعد ذلك، فإنه يتوب بذلك إلى الله متاباً أي: يرجع إليه رجوعاً صحيحاً قوياً. قال القفال: يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذا قال: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ}، ثم عطف عليه من تاب من المسلمين، وأتبع توبته عملاً صالحاً، فله حكم التائبين أيضاً. وقيل: أي: من تاب بلسانه، ولم يحقق التوبة بفعله، فليست تلك التوبة نافعة، بل من تاب وعمل صالحاً، فحقق توبته بالأعمال الصالحة، فهو الذي تاب إلى الله متاباً أي: تاب حقّ التوبة، وهي النصوح، ولذلك أكد بالمصدر، ومعنى الآية: من أراد التوبة، وعزم عليها، فليتب إلى الله، فالخبر في معنى الأمر كذا قيل لئلا يتحد الشرط والجزاء، فإنه لا يقال: من تاب، فإنه يتوب.
ثم وصف سبحانه هؤلاء التائبين العاملين للصالحات، فقال: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أي: لا يشهدون الشهادة الكاذبة، أو لا يحضرون الزور، والزور: هو الكذب والباطل ولا يشاهدونه، وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين. قال الزجاج: الزور في اللغة الكذب، ولا كذب فوق الشرك بالله. قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الزور ها هنا بمعنى الشرك. والحاصل أن {يشهدون} إن كان من الشهادة ففي الكلام مضاف محذوف أي: لا يشهدون شهادة الزور، وإن كان من الشهود والحضور كما ذهب إليه الجمهور، فقد اختلفوا في معناه، فقال قتادة: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم، وقال محمد بن الحنفية: لا يحضرون اللهو والغناء، وقال ابن جريج: الكذب.
وروي عن مجاهد أيضاً، والأولى عدم التخصيص بنوع من أنواع الزور، بل المراد الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائناً ما كان {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً} أي: معرضين عنه غير ملتفتين إليه، واللغو: كل ساقط من قول أو فعل.
قال الحسن: اللغو: المعاصي كلها، وقيل: المراد: مرّوا بذوي اللغو، يقال: فلان يكرم عما يشينه أي: يتنزّه، ويكرم نفسه عن الدخول في اللغو، والاختلاط بأهله.
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بئايات رَبّهِمْ} أي: بالقرآن، أو بما فيه موعظة وعبرة {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أي: لم يقعوا عليها حال كونهم صماً وعمياناً، ولكنهم أكبوا عليها سامعين مبصرين، وانتفعوا بها. قال ابن قتيبة: المعنى: لم يتغافلوا عنها، كأنهم صمّ لم يسمعوها، وعمي لم يبصروها. قال ابن جرير: ليس ثم خرور، بل كما يقال: قعد يبكي، وإن كان غير قاعد. قال ابن عطية: كأن المستمع للذكر قائم، فإذا أعرض عنه كان ذلك خروراً، وهو السقوط على غير نظام. قيل: المعنى: إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم، فخروا سجداً وبكياً، ولم يخرّوا عليها صماً وعمياناً. قال الفراء: أي: لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا. قال في الكشاف: ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له، ونفي للصمم والعمى، وأراد أن النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد.
{والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} من ابتدائية، أو بيانية. قرأ نافع وابن كثير وابن عباس والحسن: {وذرّياتنا} بالجمع، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى: {وذرّيتنا} بالإفراد، والذرّية تقع على الجمع، كما في قوله: {ذُرّيَّةً ضعافا} [النساء: 9]، وتقع على الفرد كما في قوله: {ذُرّيَّةً طَيّبَةً} [آل عمران: 38]، وانتصاب {قرّة أعين} على المفعولية، يقال: قرّت عينه قرة. قال الزجاج: يقال: أقرّ الله عينك أي: صادف فؤادك ما يحبه، وقال المفضل: في قرّة العين ثلاثة أقوال: أحدها برد دمعها، لأنه دليل السرور والضحك، كما أن حرّه دليل الحزن والغمّ. والثاني: نومها، لأنه يكون مع فراغ الخاطر، وذهاب الحزن، والثالث: حصول الرضا {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} أي: قدوة يقتدى بنا في الخير، وإنما قال: {إماماً}، ولم يقل: أئمة، لأنه أريد به الجنس، كقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: 5] قال الفراء: قال: {إماماً}، ولم يقل أئمة؛ كما قال للاثنين: {إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} [الشعراء: 16] يعني: أنه من الواحد الذي أريد به الجمع.
وقال الأخفش: الإمام جمع أمّ من أمّ يأمّ، جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام. وقيل: إن إماماً مصدر، يقال: أمّ فلان فلاناً إماماً، مثل الصيام والقيام. وقيل: أرادوا: اجعل كل واحد منا إماماً، وقيل: أرادوا: اجعلنا إماماً واحداً لاتحاد كلمتنا، وقيل: إنه من الكلام المقلوب، وأن المعنى: واجعل المتقين لنا إماماً، وبه قال مجاهد. وقيل: إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد، وأن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء: واجعلني للمتقين إماماً، ولكنها حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير لقصد الإيجاز كقوله: {ياأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا} [المؤمنون: 51]، وفي هذا إبقاء {إماماً} على حاله، ومثل ما في الآية قول الشاعر:
يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي *** إن العواذل ليس لي بأمين
أي: أمناء. قال القفال: وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل: اجعلنا حجة للمتقين، ومثله البينة: يقال: هؤلاء بينة فلان. قال النيسابوري: قيل: في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية مما يجب أن تطلب، ويرغب فيها، والأقرب: أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم، والإشارة بقوله: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ} إلى المتصفين بتلك الصفات، وهو مبتدأ وخبره ما بعده، والجمل مستأنفة. وقيل: إن {أولئك} وما بعده خبر لقوله: {وَعِبَادُ الرحمن} كذا قال الزجاج، والغرفة: الدرجة الرفيعة، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها، وهي في الأصل لكلّ بناء مرتفع، والجمع غرف.
وقال الضحاك: الغرفة الجنة، والباء في {بِمَا صَبَرُواْ} سببية، وما مصدرية أي: يجزون الغرفة بسبب صبرهم على مشاق التكليف {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وسلاما} قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف: {يلقون} بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، واختار هذه القراءة الفراء، قال: لأن العرب تقول: فلان يلقي بالسلام والتحية والخير، وقلّ ما يقولون: يلقى. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 11]، والمعنى: أنه يحيي بعضهم بعضاً، ويرسل إليهم الربّ سبحانه بالسلام، قيل: التحية البقاء الدائم والملك العظيم، وقيل: هي بمعنى السلام، وقيل: إن الملائكة تحييهم وتسلم عليهم، والظاهر: أن هذه التحية والسلام هي من الله سبحانه لهم، ومن ذلك قوله سبحانه: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} [الأحزاب: 44]، وقيل: معنى التحية: الدعاء لهم بطول الحياة. ومعنى السلام: الدعاء لهم بالسلامة من الآفات، وانتصاب {خالدين فِيهَا} على الحال أي: مقيمين فيها من غير موت {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} أي: حسنت الغرفة مستقرًّا يستقرّون فيه، ومقاماً يقيمون به، وهذا في مقابل ما تقدّم من قوله: {سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}.
{قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} بيّن سبحانه أنه غنيّ عن طاعة الكلّ، وإنما كلفهم لينتفعوا بالتكليف، يقال: ما عبأت بفلان: أيّ: ما باليت به، ولا له عندي قدر، وأصل يعبأ من العبء، وهو الثقل. قال الخليل: ما أعبأ بفلان أي: ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره، ويدّعي أن وجوده وعدمه سواء، وكذا قال أبو عبيدة. قال الزجاج: {مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي} يريد: أيّ وزن يكون لكم عنده؟ والعبء: الثقل، وما استفهامية، أو نافية، وصرح الفراء: بأنها استفهامية. قال ابن الشجري: وحقيقة القول عندي: أن موضع {ما} نصب، والتقدير: أي عبء يعبأ بكم؟ أي: أيّ مبالاة يبالي بكم؟ {لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ}: أي: لولا دعاؤكم إياه، لتعبدوه، وعلى هذا، فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله، وهو اختيار الفراء، وفاعله محذوف، وجواب لولا محذوف: تقديره: لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم، ويؤيد هذا قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، والخطاب لجميع الناس، ثم خصّ الكفار منهم، فقال: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ}. وقرأ ابن الزبير {فقد كذب الكافرون}، وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس. وقيل: إن المصدر مضاف إلى الفاعل أي: لولا استغاثتكم إليه في الشدائد. وقيل: المعنى: ما يعبأ بكم أي: بمغفرة ذنوبكم لولا دعاؤكم الآلهة معه.
وحكى ابن جني: أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير.
وحكى الزهراوي، والنحاس: أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما، وممن قال: بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتيبي، والفارسي قالا: والأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه، وجواب لولا محذوف تقديره على هذا الوجه: لولا دعاؤكم لم يعذبكم، ويكون معنى {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} على الوجه الأوّل: فقد كذبتم بما دعيتم إليه، وعلى الوجه الثاني: فقد كذبتم بالتوحيد. ثم قال سبحانه: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي: فسوف يكون جزاء التكذيب لازماً لكم، وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا: ما لزم المشركين يوم بدر، وقالت طائفة: هو عذاب الآخرة. قال أبو عبيدة: لزاماً: فيصلاً، أي: فسوف يكون فيصلاً بينكم وبين المؤمنين. قال الزجاج: فسوف يكون تكذيبكم لزاماً يلزمكم، فلا تعطون التوبة، وجمهور القراء على كسر اللام من لزاماً، وأنشد أبو عبيدة لصخر:
فإما ينجو من خسف أرض *** فقد لقيا حتوفهما لزاما
قال ابن جرير: {لزاماً}: عذاباً دائماً، وهلاكاً مفنياً يلحق بعضكم ببعض، كقول أبي ذؤيب:
ففأجأه بعادية لزام *** كما يتفجر الحوض اللفيف
يعني: باللزام الذي يتبع بعضه بعضاً، وباللفيف: المتساقط من الحجارة المنهدمة.
وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال: سمعت أبا السماك يقرأ: {لزاماً} بفتح اللام. قال أبو جعفر: يكون مصدر لزم، والكسر أولى.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ الذنب أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك» قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك»، قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك»، فأنزل الله تصديق ذلك: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ}.
وأخرجا، وغيرهما أيضاً عن ابن عباس: أن ناساً من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول، وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: {والذين لاَ يَدْعُونَ} الآية، ونزلت: {قُلْ ياعِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو في قوله: {يَلْقَ أَثَاماً} قال: وادٍ في جهنم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ} الآية. اشتدّ ذلك على المسلمين، فقالوا: ما منا أحد إلاّ أشرك وقتل وزنى، فأنزل الله: {ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} الآية [الزمر: 53]، يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا في الشرك، ثم نزلت هذه الآية: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحا فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} فأبدلهم الله بالكفر الإسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالإنكار المعرفة، وبالجهالة العلم.
وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاما}، ثم نزلت: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ}، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بها، وفرحه ب {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1]، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {فأولئك يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} قال: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك، فحوّلهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات.
وأخرج أحمد وهناد والترمذي وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرض عليه صغارها، وينحى عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا كذا، وهو يقرّ، ليس ينكر، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء، فيقال: أعطوه بكل سيئة عملها حسنة» والأحاديث في تكفير السيئات، وتبديلها بالحسنات كثيرة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال: إن الزور كان صنماً بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّوا به مرّوا كراماً لا ينظرون إليه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} قال: يعنون: من يعمل بالطاعة، فتقرّ به أعيننا في الدنيا والآخرة {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} قال: أئمة هدى يهتدى بنا، ولا تجعلنا أئمة ضلالة، لأنه قال لأهل السعادة: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]، ولأهل الشقاوة: {وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41].
وأخرج الحكيم الترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة} قال: «الغرفة من ياقوتة حمراء، أو زبرجدة خضراء، أو درّة بيضاء ليس فيها فصم ولا وصم».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} يقول: لولا إيمانكم، فأخبر الله أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كانت له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} قال: موتاً.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري عنه: أنه كان يقرأ: {فَقَدْ كَذَّبَ الكافرون فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً}.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه قرأها كذلك.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} قال: القتل يوم بدر، وفي الصحيحين عنه قال: «خمس قد مضين: الدخان والقمر واللزوم والبطشة واللزام».

1 | 2 | 3